القدس العربي “الشقاق بين مدينة إدلب السورية وريفها: ورقة الجولاني الخطيرة لقمع المتظاهرين”
تنوعت الأساليب التي استخدمتها هيئة «تحرير الشام» لقمع المتظاهرين والاحتجاجات شمال غرب سوريا. وفي سيناريو مشابه لقمع المتظاهرين بواسطة شبكات المهربين في بلدتي حارم وبداما في 27 آذار (مارس) الماضي، لجأت «تحرير الشام» لما يعرف بمجلس أعيان ووجهاء إدلب لفض أحد الاعتصامات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وهو ما أسفر عن صدام بين أهالي المدينة والمعتصمين القادمين من مناطق أخرى.
وعقب صلاة الجمعة، خرجت مناطق عدة بمحافظة إدلب في مظاهرات غاضبة ومناهضة لهيئة «تحرير الشام» وزعيمها أبو محمد الجولاني، وشملت المظاهرات التي جاءت استجابة لدعوات أطلقها ناشطون معارضون لممارسات «الهيئة» مدن وبلدات إدلب وأريحا وبنش والأتارب وكفرتخاريم وأرمناز وأورم الجوز وحفسرجة وباريشا وحزانو، وردد المتظاهرون هتافات تطالب برحيل الجولاني، وحل حكومة الإنقاذ وإدارة الأمن العام التابعة لها، ومن الهتافات «يالله إرحل جولاني، جولاني ولاك مابدنا ياك». كما حملوا لافتات تدين تحرير الشام وجهازها الأمني على خلفية حل إدارة الأمن العام بالقوة لاعتصام أمام المحكمة العسكرية في مدينة إدلب الثلاثاء الماضي، يطالب بالإفراج عن المعتقلين، ومن لافتات المتظاهرين ما كتب عليها «شبيحة من نسل الأسد، لا فرق بين الأمس واليوم» ولافتة كتب عليها «شبيحة الجولاني ليست غريبة عنكم، هذه مهمتكم» كما خرجت مظاهرات عدة في منطقة مخيمات النازحين شمال إدلب في مخيمات باريشا وأطمة ودير حسان.
وكانت «تحرير الشام» قد فرضت طوقًا أمنيًا حول مدينة إدلب منذ ساعات الصباح الأولى يوم الجمعة، لمنع وصول المتظاهرين من البلدات والمدن الأخرى، وحسب مصادر محلية فقد نشرت «الهيئة» عناصر مدججة بالأسلحة من إدارة الأمن العام على مداخل إدلب، ليعطوا أوامر لأهالي المدينة المغادرين بأنهم غير قادرين على العودة إلى إدلب حتى المساء، وستكون المدينة مغلقة للقادمين باستثناء عائلات العناصر التابعين لها، وبالرغم من الطوق الأمني المفروض إلا أن المتظاهرين من مدينة بنش توجهوا لمدينة إدلب ولم يتمكنوا من الدخول، كما منعت عناصر إدارة الأمن العام متظاهرين من منطقة حفسرجة حاولوا الدخول للمدينة من الطرف الغربي، وأضافت المصادر أن «تحرير الشام» نشرت منذ ليل الجمعة عناصرها في منطقة المخيمات تخوفًا من خروج مظاهرة مركزية في المنطقة، كما منعت من خلال عناصرها الأمنيين دخول متظاهرين من مدينة بنش إلى بلدة الفوعة التي كان الجولاني قد زارها قبل ساعات حسب تغريدة للمعرف على منصة «X» مزمجر الثورة السورية، حيث التقى فيها زعيم «تحرير الشام» بنشطاء ومتظاهرين رفضوا وعوده وأعلنوا له عن استمرارهم في التظاهر السلمي، ودانوا عمليات فض المظاهرات والاعتصامات بالعنف.
وشهد طريق بنش-إدلب عنفعا شديدا وقمعا للمتظاهرين المتوجهين من بنش والفوعة باتجاه مدينة إدلب، وتداولت صفحات إخبارية محلية عدة شرائط مصورة تظهر العربات المصفحة التابعة لجهاز الأمن العام وهي تلاحق المتظاهرين محاولة دهسهم وتخويفهم، وقام المتظاهرون الغاضبون برمي المصفحات بالحجارة واستمر التوتر على الطريق المذكور قرابة الساعتين من الزمن تمكن عناصر قوات الأمن العام والجناح العسكري في الهيئة من منع المتظاهرين من تجاوز الحاجز والوصول إلى مدينة إدلب.
وتيرة الاحتجاجات ضد «تحرير الشام» التي انطلقت ولا تزال مستمرة منذ 26 شباط (فبراير) الفائت، ارتفعت خلال الأسبوع الماضي على خلفية فض عناصر إدارة الأمن العام التابع لوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، لاعتصام لمناهضين للهيئة الثلاثاء بالعصي والسكاكين والضرب، وكان المعتصمون قد نصبوا خيمة لهم أمام المحكمة العسكرية في شارع الجلاء في إدلب صباح الإثنين 13 من الشهر الجاري للمطالبة بالمغيبين قسرًا في معتقلات الهيئة، وخاصة الأجانب والمغيبين بتهمة «العمالة» المشهورة التي عصفت بالهيئة نهاية العام الماضي. وفي تفاصيل الحادثة قالت مصادر محلية لـ «القدس العربي» إن المعتصمين تعرضوا للضرب بالعصي والسكاكين من قبل العناصر الأمنيين التابعين للجولاني، والذين حاولوا فض الاعتصام بداية من خلال إطلاق الرصاص بالهواء تبعه مشادات كلامية بينهم وبين المعتصمين الذين اتهموا الأمنيين بـ «الشبيحة» ولتنتهي الحادثة بفض الاعتصام، ودخول العناصر للخيمة وإزالتها. وحسب مقطع مصور لمروان سيد عيسى عضو مجلس أعيان مدينة إدلب قال فيه إن إدارة المنطقة التابعة لوزارة الداخلية في الإنقاذ اتصلت بوجهاء المدينة لتوسيطهم في فض الاعتصام، على خلفية شكاوى من سكان منطقة شارع الجلاء على تعطل أعمالهم وإغلاق الشارع بسبب الاعتصام، وعند محاولة الوجهاء التحدث مع المعتصمين من خلال الطرق السلمية، تعرضوا لكيل من الاتهامات من قبل المحتجين الذين وصفوا وفد الوجهاء بـ «الشبيحة» الأمر الذي اعتبره أعيان إدلب «إهانة» حسب ما قاله سيد عيسى في المقطع المصور، وفي مقطع مصور آخر ظهر أبو بلال أحمد سيد عيسى الذي تربطه بالجولاني علاقة متينة ويعتبر من أوائل المحتضنين له، يتحدث في أحد مساجد إدلب عن رفض سكان المدينة لأي تظاهرات، ويطالب سكان المدينة للوقوف على كلمة واحدة للحفاظ على ما وصفه بـ «آخر معقل للثورة» مضيفًا «لا نريد لأي أحد من خارج المدينة أن يتظاهر فيها، فمن يريد من أهالي إدلب التظاهر فله ذلك، لكن لا نريد أي تظاهرة لمتظاهرين من خارج إدلب».
بدورها علقت حكومة الإنقاذ، من خلال وزارة الداخلية فيها على حادثة فض اعتصام «المحكمة العسكرية بالقوة» مساء الثلاثاء، مشيرة إلى أن تدخل إدارة الأمن العام لفض الاعتصام جاء بعد تعرض عدد من وجهاء مدينة إدلب للضرب والإهانة من قبل المعتصمين، وقال وزير الداخلية في الإنقاذ، محمد عبد الرحمن في مقطع مصور نشر على موقع «يوتيوب»: «إن المعتصمين اعترضوا طريق وفد الوجهاء، واحتد النقاش بينهما، لينتهي باعتداء المحتجين على الوفد بالضرب وإطلاق النار عليهم» وأضاف أن المتظاهرين اعتدوا على عناصر قيادة شرطة إدلب التي تدخلت لإنهاء الاعتصام بالضرب، ما أسفر عن إصابة ستة عناصر بجروح الأمر الذي استدعى تدخل عناصر إدارة الأمن العام.
وختم الوزير بتهديد المتظاهرين و«الضرب بيد من حديد على كل يد تريد العبث في أمن وأمان المحرر وجره إلى الفتنة» لافتًا إلى أن الإنقاذ و«تحرير الشام» استجابوا لمطالبات المتظاهرين، لكن الفئة الحالية من المتظاهرين «هدفها الفتنة والتخريب».
زعيم هيئة «تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، اتهم المتظاهرين بالانحراف عن مطالبهم المحقة، ودخولهم في مرحلة التخريب، وجاء تعليق الجولاني على حادثة فض اعتصام المحكمة العسكرية خلال لقاء مع بعض الوجهاء الأربعاء الماضي، حسب ما نقلته وزارة الإعلام في حكومة الإنقاذ، وقال الجولاني «انحرفت المطالب عن مسارها الحقيقي، وتحولت إلى حالة من التعطيل للمصالح العامة في المحرر، واستخدمت أساليب تؤدي إلى تعطيل الحياة المؤسساتية والعامة في المحرر» زاعمًا أن تحرير الشام لبت المطالب المحقة سابقا، قائلاً «كانت هناك كثير من المطالب المحقة يطالب بها الناس، وجلسنا مع جميع شرائح المجتمع، ولبّيت معظم المطالب كما شاهد الجميع» معلقًا على تدخل عناصر إدارة الأمن العام وفض اعتصام المحكمة العسكرية بالقول إن «المعتصمين اعتدوا على أهالي إدلب في أثناء مناصحتهم للمرة الثالثة، الأمر الذي استدعى تدخل الأمن العام وإنهاء وحسم الموقف» وأشار الجولاني إلى أنه من بين كافة الوسائل التي تملكها سلطته في إدلب، إلا انها لم تستخدم سوى لغة الحوار، والاستجابة لمطالب الناس.
يعتقد الجولاني أن الحفاظ على إدلب باعتبارها المركز وترك الأطراف تتهالك هي السياسة الأقرب إلى الصواب حسب نظرية المركز والأطراف المعروفة وهي النظرية التي طبقها بشار الأسد منذ انطلاقة الانتفاضة السورية في ربيع عام 2011. يفوت الجولاني هنا أن المدن والبلدات الكبرى كانت مركزا جهويا بحد ذاته وهي التي أفقدت سيطرته على ثلثي البلاد في ربيع 2015 كما أن الاعتماد على عوائل إدلب المقربة منه واستثارة عصب المناطقية بين الريف والمدينة هو أمر في غاية السذاجة، فمدينة إدلب صغيرة تحكمها العادات والتقاليد الريفية في كثير من جوانبها. وتعتبر خطورة الاعتماد على عوائل محددة في قمع الحراك وتجييشهم ضد المتظاهرين من باقي المدن حدثا في غاية الخطورة لجهة تعزيز الشرخ الاجتماعي بين من يعتقد أنهم في صف سياسي معارض واحد ضد النظام السوري وسياساته.